.تفسير الآية رقم (48):
{ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ}.قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [22/ 19].وَقَدْ تَرَكْنَا إِحَالَاتٍ مُتَعَدِّدَةً بَيَّنَّا فِيهَا بَعْضَ آيَاتِ سُورَةِ الدُّخَانِ هَذِهِ، خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ بِكَثْرَةِ الْإِحَالَةِ.
.تفسير الآية رقم (58):
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} الْآيَةَ [19/ 97].
.سُورَةُ الْجَاثِيَةِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
.تفسير الآية رقم (3):
{إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ، مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ- سِتَّةَ بَرَاهِينَ مِنْ بَرَاهِينِ التَّوْحِيدِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ تَعَالَى.الْأَوَّلُ مِنْهَا: خَلْقُهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ.الثَّانِي: خَلْقُهُ النَّاسَ.الثَّالِثُ: خَلْقُهُ الدَّوَابَّ.الرَّابِعُ: اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.الْخَامِسُ: إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِهِ.السَّادِسُ: تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ.وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينَ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمُوقِنُونَ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ عَنِ اللَّهِ حُجَجَهُ وَآيَاتِهِ، فَكَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ.وَلِذَا قَالَ: لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ قَالَ: آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، ثُمَّ قَالَ: آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.وَهَذِهِ الْبَرَاهِينُ السِّتَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ- جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهَا، وَهُوَ خَلْقُهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ- فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [50/ 6- 8]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الْآيَةَ [34/ 9]. وَقَوْلِهِ:
{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} الْآيَةَ [10/ 101]. وَقَوْلِهِ:
{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الْآيَةَ [7/ 158]. وَقَوْلِهِ:
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [30/ 22] فِي الرُّومِ وَ:
{الشُّورَى} [42/ 29]. وَقَوْلِهِ:
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [40/ 64]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [40/ 64]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [51/ 47- 48]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} إِلَى قَوْلِهِ:
{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [78/ 6- 12]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا مَعْرُوفَةٌ.وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهَا، وَهُوَ خَلْقُهُ النَّاسَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَفِي خَلْقِكُمْ- فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [30/ 20]. وَقَوْلِهِ:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الْآيَةَ [2/ 21]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ نُوحٍ:
{مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [71/ 13- 14]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [39/ 6]. وَقَوْلِهِ:
{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [51/ 21]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَمَعْلُومَةٌ.وَأَمَّا الثَّالِثُ مِنْهَا، وَهُوَ خَلْقُهُ الدَّوَابَّ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ فَقَدْ جَاءَ أَيْضًا مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَيْضًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّورَى:
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [42/ 29]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ:
{وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} الْآيَةَ [2/ 164]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [39/ 6]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [39/ 6]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَمَعْلُومَةٌ.وَأَمَّا الرَّابِعُ مِنْهَا، وَهُوَ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَاخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ- فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ إِلَى قَوْلِهِ:
{لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [2/ 164]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آلِ عِمْرَانَ:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [3/ 190]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي فُصِّلَتْ:
{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} الْآيَةَ [41/ 37]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} الْآيَةَ [36/ 37- 38]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [24/ 44]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [28/ 71- 73]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [23/ 80]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.وَأَمَّا الْخَامِسُ مِنْهَا، وَهُوَ إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ، وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِهِ، وَإِنْبَاتُ الرِّزْقِ فِيهَا، الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا- فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِلَى قَوْلِهِ:
{لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [2/ 164]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا} إِلَى قَوْلِهِ:
{مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [80/ 24- 32].وَإِيضَاحُ هَذَا الْبُرْهَانِ بِاخْتِصَارٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُكَلَّفٍ أَنْ يَنْظُرَ وَيَتَأَمَّلَ فِي طَعَامِهِ، كَالْخَبْزِ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَعِيشُ بِهِ، مِنْ خَلْقِ الْمَاءِ الَّذِي كَانَ سَبَبًا لِنَبَاتِهِ.هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يَخْلُقَهُ؟الْجَوَابُ: لَا.ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ خُلِقَ بِالْفِعْلِ، هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُنْزِلَهُ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ النَّفْعُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِإِنْزَالِهِ عَلَى الْأَرْضِ رَشًّا صَغِيرًا، حَتَّى تُرْوَى بِهِ الْأَرْضُ تَدْرِيجًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ بِهِ هَدْمٌ وَلَا غَرَقٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [24/ 43]؟.الْجَوَابُ: لَا.ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ خُلِقَ فِعْلًا، وَأُنْزِلَ فِي الْأَرْضِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الْأَتَمِّ الْأَكْمَلِ، هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يَشُقَّ الْأَرْضَ وَيُخْرِجَ مِنْهَا مِسْمَارَ النَّبَاتِ؟الْجَوَابُ: لَا.ثُمَّ هَبْ أَنَّ النَّبَاتَ خَرَجَ مِنَ الْأَرْضِ، وَانْشَقَّتْ عَنْهُ، فَهَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُخْرِجَ السُّنْبُلَ مِنْ ذَلِكَ النَّبَاتِ؟الْجَوَابُ: لَا.ثُمَّ هَبْ أَنَّ السُّنْبُلَ خَرَجَ مِنَ النَّبَاتِ، فَهَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُنَمِّيَ حَبَّهُ وَيَنْقُلَهُ مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ حَتَّى يُدْرَكَ وَيَكُونَ صَالِحًا لِلْغِذَاءِ وَالْقُوتِ؟الْجَوَابُ: لَا.وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:
{انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [6/ 99]. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [78/ 14- 16]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [36/ 33]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.وَاعْلَمْ أَنَّ إِطْلَاقَهُ تَعَالَى الرِّزْقَ عَلَى الْمَاءِ فِي آيَةِ الْجَاثِيَةِ هَذِهِ- قَدْ أَوْضَحْنَا وَجْهَهُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} الْآيَةَ [40/ 13].وَأَمَّا السَّادِسُ مِنْهَا، وَهُوَ تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ- فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ:
{وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [2/ 164]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} [30/ 46]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [15/ 22]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.تَنْبِيهٌ:اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْبَرَاهِينَ الْعَظِيمَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ هَذِهِ- ثَلَاثَةٌ مِنْهَا مِنْ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ الَّتِي يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى الْبَعْثِ، كَثْرَةً مُسْتَفِيضَةً.وَقَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ النَّحْلِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَحَلْنَا عَلَيْهَا مِرَارًا كَثِيرَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَسَنُعِيدُ طَرَفًا مِنْهَا هُنَا لِأَهَمِّيَّتِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.وَالْأَوَّلُ مِنَ الْبَرَاهِينِ الْمَذْكُورَةِ: هُوَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمَذْكُورُ هُنَا فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ هَذِهِ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ خَلْقَهُ- جَلَّ وَعَلَا- لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ- مِنْ أَعْظَمِ الْبَرَاهِينِ عَلَى بَعْثِ النَّاسِ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ مَنْ خَلَقَ الْأَعْظَمَ الْأَكْبَرَ لَا شَكَّ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِ الْأَضْعَفِ الْأَصْغَرِ.وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [40/ 57] أَيْ وَمَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الْأَكْبَرِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْأَصْغَرِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [36/ 81]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [46/ 33]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} الْآيَةَ [17/ 99]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [79/ 27- 33].وَنَظِيرُ آيَةِ النَّازِعَاتِ هَذِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الصَّافَّاتِ:
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} الْآيَةَ [37/ 11]؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَمْ مَنْ خَلَقْنَا يُشِيرُ بِهِ إِلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا ذَكَرَ مَعَهُمَا الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ إِلَى قَوْلِهِ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [37/ 5- 10].وَأَمَّا الثَّانِي مِنَ الْبَرَاهِينِ الْمَذْكُورَةِ: فَهُوَ خَلْقُهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ الْمَرَّةَ الْأُولَى؛ لِأَنَّ مَنِ ابْتَدَعَ- خَلْقَهُمْ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ- لَا شَكَّ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِهِمْ مَرَّةً أُخْرَى، كَمَا لَا يَخْفَى.وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْبُرْهَانِ عَلَى الْبَعْثِ كَثِيرٌ جِدًّا فِي كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [22/ 5] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ.وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [36/ 78- 79]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} الْآيَةَ [19/ 66- 68]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} الْآيَةَ [30/ 27]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [17/ 51]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [21/ 104]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [50/ 15]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} [56/ 62]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} [53/ 45- 47]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [75/ 36- 40]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} إِلَى قَوْلِهِ:
{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} [95/ 1- 7] يَعْنِي أَيَّ شَيْءٍ يَحْمِلُكَ عَلَى التَّكْذِيبِ بِالدِّينِ- أَيْ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ- وَقَدْ عَلِمْتَ أَنِّي خَلَقْتُكَ الْخَلْقَ الْأَوَّلَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ أَنَّ مَنِ ابْتَدَعَ الْإِيجَادَ الْأَوَّلَ لَا شَكَّ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَتِهِ مَرَّةً أُخْرَى. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.وَأَمَّا الْبُرْهَانُ الثَّالِثُ مِنْهَا، وَهُوَ إِحْيَاءُ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ هَذِهِ: وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَإِنَّهُ يَكْثُرُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَيْضًا عَلَى الْبَعْثِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَحْيَا الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ النَّاسِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ أَحْيَاءٌ بَعْدَ مَوْتٍ.فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [41/ 39]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [22/ 5- 7]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [30/ 50]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [7/ 57].فَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى} أَيْ نَبْعَثُهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً كَمَا أَخْرَجْنَا تِلْكَ الثَّمَرَاتِ بَعْدَ عَدَمِهَا وَأَحْيَيْنَا بِإِخْرَاجِهَا ذَلِكَ الْبَلَدَ الْمَيِّتَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [30/ 19] يَعْنِي تُخْرَجُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [50/ 11]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
.تفسير الآيات (6-8):
{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)}:قَوْلُهُ تَعَالَى:
{تَلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ}.أَشَارَ- جَلَّ وَعَلَا- لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى آيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَبَيَّنَ لِنَبِيِّهِ أَنَّهُ يَتْلُوهَا عَلَيْهِ مُتَلَبِّسَةً بِالْحَقِّ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلَا مِنْ خَلْفِهِ.وَمَا ذَكَرَهُ- جَلَّ وَعَلَا- فِي آيَةِ الْجَاثِيَةِ هَذِهِ- ذَكَرَهُ فِي آيَاتٍ أُخَرَ بِلَفْظِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ:
{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [2/ 251- 252]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آلِ عِمْرَانَ:
{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} [3/ 107- 108]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: تِلْكَ- بِمَعْنَى هَذِهِ.وَمِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِطْلَاقُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْبَعِيدِ عَلَى الْإِشَارَةِ إِلَى الْقَرِيبِ، كَقَوْلِهِ:
{ذَلِكَ الْكِتَابُ} [2/ 2] بِمَعْنَى: هَذَا الْكِتَابُ. كَمَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى، وَمِنْ شَوَاهِدِهِ قَوْلُ خُفَافِ بْنِ نَدْبَةَ السُّلَمِيِّ:
فَإِنْ تَكُ خَيْلِي قَدْ أُصِيبَ صَمِيمُهَا ** فَعَمْدًا عَلَى عَيْنِي تَيَمَّمْتُ مَالِكًاأَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ ** تَأَمَّلْ خُفَافًا أَنَّنِي أَنَا ذَلِكَايَعْنِي أَنَا هَذَا.وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَبْحَثَ، وَذَكَرْنَا أَوْجُهَهُ فِي كِتَابِنَا دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ- فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{نَتْلُوهَا} أَيْ نَقْرَؤُهَا عَلَيْكَ.وَأَسْنَدَ- جَلَّ وَعَلَا- تِلَاوَتَهَا إِلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهَا كَلَامُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ، وَأَمَرَ الْمَلَكَ أَنْ يَتْلُوَهُ عَلَيْهِ مُبَلِّغًا عَنْهُ- جَلَّ وَعَلَا-.وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [75/ 16- 19].فَقَوْلُهُ: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ، أَيْ قَرَأَهُ عَلَيْكَ الْمَلَكُ الْمُرْسَلُ بِهِ مِنْ قِبَلِنَا مُبَلِّغًا عَنَّا، وَسَمِعْتَهُ مِنْهُ، فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، أَيْ فَاتَّبِعْ قِرَاءَتَهُ وَاقْرَأْهُ كَمَا سَمِعْتَهُ يَقْرَؤُهُ.وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:
{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [20/ 114].وَسَمَاعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ مِنَ الْمَلَكِ الْمُبَلِّغِ عَنِ اللَّهِ كَلَامَ اللَّهِ وَفَهْمُهُ لَهُ- هُوَ مَعْنَى تَنْزِيلِهِ إِيَّاهُ عَلَى قَلْبِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [2/ 97]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [26/ 192- 195]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ:
{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} [45/ 6] يَعْنِي آيَاتِهِ الشَّرْعِيَّةَ الدِّينِيَّةَ.وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِطْلَاقَيْنِ، وَفِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِطْلَاقَيْنِ أَيْضًا.أَمَّا إِطْلَاقَاهُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ:فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا- وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ- فَهُوَ إِطْلَاقُ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ، وَهَذَا مُسْتَفِيضٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانٍ:
تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ** لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْآيَاتِ عَلَامَاتُ الدَّارِ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ:
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لَأْيًا أُبِينُهُ ** وَنُؤْيٌ كَجَذْمِ الْحَوْضِ أَثَلَمُ خَاشِعُوَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا فَهُوَ إِطْلَاقُ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ، يَقُولُونَ: جَاءَ الْقَوْمُ بِآيَتِهِمْ، أَيْ بِجَمَاعَتِهِمْ.وَمِنْهُ قَوْلُ بُرْجُ بْنُ مُسْهِرٍ:
خَرَجْنَا مِنَ النَّقْبَيْنِ لَا حَيَّ مِثْلُنَا ** بِآيَتِنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ الْمَطَافِلَاوَقَوْلُهُ:
{بِآيَاتِنَا} يَعْنِي بِجَمَاعَتِنَا.وَأَمَّا إِطْلَاقَاهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا: إِطْلَاقُ الْآيَةِ عَلَى الشَّرْعِيَّةِ الدِّينِيَّةِ، كَآيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ الْآيَةَ.وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا: فَهُوَ إِطْلَاقُ الْآيَةِ عَلَى الْآيَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [3/ 190].أَمَّا الْآيَةُ الْكَوْنِيَّةُ الْقَدَرِيَّةُ فَهِيَ بِمَعْنَى الْآيَةِ اللُّغَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْعَلَامَةُ؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ عَلَامَاتٌ قَاطِعَةٌ، عَلَى أَنَّ خَالِقَهَا هُوَ الرَّبُّ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ.وَأَمَّا الْآيَةُ الشَّرْعِيَّةُ الدِّينِيَّةُ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهَا أَيْضًا مِنَ الْآيَةِ الَّتِي هِيَ الْعَلَامَةُ؛ لِأَنَّ آيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ- عَلَامَاتٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهَا، لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ بُرْهَانِ الْإِعْجَازِ، أَوْ لِأَنَّ فِيهَا عَلَامَاتٍ يُعْرَفُ بِهَا مَبْدَأُ الْآيَاتِ وَمُنْتَهَاهَا.وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهَا مِنَ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ، لِتَضَمُّنِهَا جُمْلَةً وَجَمَاعَةً مِنْ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ وَحُرُوفِهِ.وَاخْتَارَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ أَصْلَ الْآيَةِ أَيَيَةٌ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْيَاءَيْنِ بَعْدَهَا- فَاجْتَمَعَ فِي الْيَاءَيْنِ مُوجِبَا إِعْلَالٍ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَحَرِّكَةٌ حَرَكَةً أَصْلِيَّةً بَعْدَ فَتْحٍ مُتَّصِلٍ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
مِنْ وَاوٍ وَيَاءٍ بِتَحْرِيكِ أُصِلْ ** أَلِفًا أَبْدِلْ بَعْدَ فَتْحٍ مُتَّصِلْإِنْ حُرِّكَ التَّالِيإِلَخْ.وَالْمَعْرُوفُ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ أَنَّهُ إِنِ اجْتَمَعَ مُوجِبَا إِعْلَالٍ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْأَكْثَرُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ تَصْحِيحُ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا، وَإِعْلَالُ الثَّانِي بِإِبْدَالِهِ أَلِفًا، كَالْهَوَى وَالنَّوَى وَالطَّوَى وَالشَّوَى، وَرُبَّمَا صُحِّحَ الثَّانِي وَأُعِلَّ الْأَوَّلُ، كَغَايَةٍ وَرَايَةٍ، وَآيَةٍ- عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ أَقْوَالٍ عَدِيدَةٍ- وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِعْلَالَهُمَا لَا يَصِحُّ، وَلِهَذَا أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَإِنْ لِحَرْفَيْنِ ذَا الْإِعْلَالُ اسْتُحِقْ ** صُحِّحَ أَوَّلٌ وَعَكْسٌ قَدْ يَحِقْقَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنَّ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.مَا ذَكَرَهُ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَبِآيَاتِ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِذَلِكَ مَعَ ظُهُورِ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ عَلَى لُزُومِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ؛ أَنَّهُ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يُؤْمِنَ بِشَيْءٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يُؤْمِنُ بِحَدِيثٍ لَآمَنَ بِاللَّهِ وَبِآيَاتِهِ؛ لِظُهُورِ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ اللَّهِ مُتَوَعَّدٌ بِالْوَيْلِ، وَأَنَّهُ أَفَّاكٌ أَثِيمٌ، وَالْأَفَّاكُ: كَثِيرُ الْإِفْكِ، وَهُوَ أَسْوَأُ الْكَذِبِ، وَالْأَثِيمُ: هُوَ مُرْتَكِبُ الْإِثْمِ بِقَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ، فَهُوَ مُجْرِمٌ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ- قَدْ ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَتَوَعَّدَ الْمُكَذِّبِينَ لِهَذَا الْقُرْآنِ بِالْوَيْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبَيَّنَ اسْتِبْعَادَ إِيمَانِهِمْ بِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْمُرْسَلَاتِ:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [47/ 48- 50]. فَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} كَقَوْلِهِ هُنَا:
{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}.وَقَدْ كَرَّرَ تَعَالَى وَعِيدَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْوَيْلِ فِي سُورَةِ الْمُرْسَلَاتِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْمُرْسَلَاتِ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ كَقَوْلِهِ هُنَا فِي الْجَاثِيَةِ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ.وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِآيَاتِهِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِآيَاتِهِ كَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِهِ تَعَالَى وَقَوْلَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ يَسْمَعُ الْقُرْآنَ يُتْلَى، ثُمَّ يُصِرُّ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي فِي حَالَةِ كَوْنِهِ مُتَكَبِّرًا عَنِ الِانْقِيَادِ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ آيَاتُ الْقُرْآنِ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ آيَاتِ اللَّهِ، لَهُ الْبِشَارَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَهُوَ الْخُلُودُ فِي النَّارِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي لُقْمَانَ:
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ} [31/ 7]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْحَجِّ:
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [22/ 72]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [47/ 16]. فَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: مَاذَا قَالَ آنِفًا- يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُبَالُونَ بِمَا يَتْلُو عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْهُدَى.وَقَدْ ذَكَرْنَا كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذَا الْمَبْحَثِ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ} [41/ 4- 5].وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا خُفِّفَتْ فِيهِ لَفْظَةُ كَأَنْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَأَنَّ إِذَا خُفِّفَتْ كَانَ اسْمُهَا مُقَدَّرًا، وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُهَا، كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَخُفِّفَتْ كَأَنَّ أَيْضًا فَنُوِي ** مَنْصُوبُهَا وَثَابِتًا أَيْضًا رُوِيوَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ أَنَّ الْبِشَارَةَ تُطْلَقُ غَالِبًا عَلَى الْإِخْبَارِ بِمَا يَسُرُّ، وَأَنَّهَا رُبَّمَا أُطْلِقَتْ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِمَا يَسُوءُ أَيْضًا. وَأَوْضَحنَا ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَيْلٌ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ.وَالْأَظْهَرُ أَنَّ لَفْظَةَ وَيْلٌ كَلِمَةُ عَذَابٍ وَهَلَاكٍ، وَأَنَّهَا مَصْدَرٌ لَا لَفْظَ لَهُ مِنْ فِعْلِهِ، وَأَنَّ الْمُسَوِّغَ لِلِابْتِدَاءِ بِهَا مَعَ أَنَّهَا نَكِرَةٌ كَوْنُهَا فِي مَعْرِضِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ.وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ.قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ-: يُؤْمِنُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ.وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ-: تُؤْمِنُونَ، بِتَاءِ الْخِطَابِ.وَقَرَأَهُ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ، وَالسُّوسِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو-: يُومَنُونَ، بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ وَاوًا وَصْلًا وَوَقْفًا.وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ وَاوًا فِي الْوَقْفِ دُونَ الْوَصْلِ.وَالْبَاقُونَ بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ مُطْلَقًا.